- يوميات رمضان - ١٢ -
---------------------
النور يشرق قادماً بعد غياب طويل ، الحياة تتسلل إلى الأرض خائفة ، أول ما يلاقني ابتسامة أنثى تحملت أعباء وأعباء ، تستشرف عيناي الأفق الممتلئ بأمواج الروح ، أُطلقُ ضحكة مختلفة ، ترتدي أطرافي الثيابّ المُستجدَّة ، طفلي الصغير يصرُّ على مرافقتي في تلك الرحلة ، طريقٌ تُرابيّةٌ تُغنّي أناشيدَ الفرح ، الغبارُ اليوم ذو طعْمِ جميلْ ، تقطعُ السيارة الطريقَ التُرابي ، تركبُ الدربَ المُعبّد حديثاً بأناقةٍ تحتفظُ بعذريتهِ الأزليّة ، قطيعُ الأغنام ينتشر على حوافّهِ دونما خوف ، الكلابُ تلتَمِسُ ودّاً من راحلتي ، الجارُ يسابقُ الزمنَ ليصلَ بالموعد ، تعرجاتُ الدربِ تفرضُ التباطُئ , يزدادُ الرونقُ ألقاً ، الأيدي لا تهبط وهي تؤدي التحية , تُرافقها ابتسامةٌ ساخنة كما خبزِ تنور طازج ، يحطُّ الموكبُ رِحالهُ أمامَ المسجدِ العتيق ، الجموعُ تستعجلُ الخروج ، حُلّة قشيبةٌ في أرجاءه .
في الطرف الآخر تجثو المِقبرة الأثرية الوادعة , تنتظرُ حفلَ الزفاف ، كانت ترتدي أجملَ أثوابها منذُ عامٍ مضى ، التلاقي المنتظر يكتوي بنيرانِ وحرارة الأشواق المتوالدة من أنفسٍ وادعة ، القبلاتُ تتناثرُ بلا هوادة ، الوجوهُ كلها مألوفة أكثر مما ينبغي ، تتشكلُ حلقاتٌ دائرية دون تحضيرٍ مُسبق ، ذكرياتُ الراحلين تعجُّ بالحناجر ، وضعتُ آخر قضيبٍ أخضر , ثُمَّ التحقتُ بالدائرة ، الشيخُ الذي مازال غضّاً يدسُّ الليرات في جيبه , علّه كان فرِحاً آنذاك ، على ضِفّة المقبرة راعٍ مع كتيبة الأغنام ينتظر رحيلَ الجموع ، ساعة من الزمن الجميل تمرّ وكأنّها ثوانٍ فقط ، النزولُ يُعلِنُ عن نفسه ذاكَ الصباح ، مازال الفرح يسيطرُ على لهفات الوجوه ، تلك الوجوه الأليفة ، حتى الحجارةُ أعرفها بالاسم ، تدور العجلات في استدارةٍ جديدة ، لأواجه دروبَ القرية الحالمة بكلّ شيء، ممتلئة بالصغار يلهون دون هدى، الرجالُ تتوافدُ طوابيراً ، الباعة الجوالين يصرخون بأصواتٍ مُحببة ، مازال كل شيء مألوفاً ، الرحلة الصباحية تُكابدُ آلام النهاية ، وجه الأم المشرق ينثر الحب على جنبات حياتي ، لتبدأ بعد قليل حلقة خاصة من برنامج هذا اليوم ، نظرت من حولي فجأة ، الوجوه لا تشبه الوجوه ، الأطفال ليست كالأطفال ، اختفتْ الضحكات ، اختفت الدربُ الترابية العذراء ، حتى النور لم يعدْ كما عهدته ذات صباح ، كما اختفتْ الأغنام مع صديقها الراعي ، الغبارُ تُبَدِّلُ طعماً يُثيرُ الاشمئزاز ، الأصواتُ المألوفة أمستْ في ذاكرة التاريخ ، الدموع تبكي نفسها رُبّما للمرةِ الأولى ، تنهيدةٌ طويلةٌ طويلةْ ، الوجعُ يتراقصُ في كلِّ مكان ، يزدادُ انسكابُ الدموع الباردة ، أشحتُ بوجهي نحو السماء ، قلتُ ( لعلّهُ يتغيرُ ذاتَ يوم ... ) ...
_________
وليد.ع. العايش
١٢/رمضان/ ١٤٣٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق