الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

بقلم الاديب وليد .ع. العايش //@ دجاجة لاتبيض //@ مجلة الوطن اتحاد الصوت الحر

_ دجاجة لا تبيض _
_________
لم تكن الدرب إلى تلك الشقة المنزوية على طرف المدينة بعيدة جداً؛ تحيطُ بها بعض شتلات الورد بألوانٍ زاهية؛ منها الأحمرُ؛ الأصفرُ؛ الأبيضُ؛ الزهريّ ... شجرةُ التوت تقبعُ وحيدةً في الجانبِ الأيسر منها؛ تسهرُ مع الورد كل ليلة؛ وتستيقظُ باكراً برفقةِ قطرات الطلّ القادمة من رَحمِ الفجر كل يوم؛ كانَ يُغريها كثيراً صياحُ الديك الصباحي؛ آهاتُ الدجاجات الخمسة تُداعبُها قبلَ ولوجِ البيضِ إلى الحياة؛ ساقيةُ الماء الصغيرة تمرُّ بِجوارها أيضاً؛ تُعاتِبُها أحياناً لتأخرِها في الحضور؛ تتمازحان أحياناً أخرى.
كان ازداشير يزورُ الشقة ليلاً؛ رجلٌ تجاوزَ العقدَ الخامس منْ عمره؛ سُحنَتهُ السمراء تشي بوسامةٍ ما ؛ لولا ذاكَ ( الكرش ) المُتدلي كما عنقودِ عِنبٍ ممتلئ الوزن, حتى عجز الغصنُ عن حمله؛ شعْرَهُ كغيومٍ أيلولية؛ تتماوجُ بينَ الأبيضِ والأسود؛ شفاهٌ غليظةٌ إلى حدٍّ ما تعتنقُ ثغرهُ المتوهجُ دوماً؛ قامتهُ الطويلة تؤدي مهمتها بقْطفِ بعض حباتِ التين, وهو في طريقهِ إلى قلبِ الشقة , حاولتْ شجرةُ التين مراراً أن تسألهُ عن سبب زياراته اليومية؛ لكنَّ الخجلَ يمنعها في كلّ مرّة
- أراك فارغ اليدين الليلة يا ازداشير ...
- دفعتُ ما كان لديّ لميكانيكي السيارات؛ والباقي أخذَتْهُ زوجتي من جيبي وأنا في الحمام ... سكتت الشابةُ الحسناء ( لورا ) على مضض؛ تحسستْ شفتاها؛ ثُمّ انقلبتْ إلى المطبخ لتحضير فناجين القهوة .
خريفٌ كامل؛ أتبعهُ شتاءٌ قارس؛ مرّا منْ هُنا؛ أصبحَ الربيعُ يدقُّ أبوابَ الأطفال؛ يمتطي صهوة جواده, ويرفعُ شارةَ النصر معَ فراشاتهِ الملونة ...
- ماذا بك يا صديقي ... أراكَ غريبَ الأطوار اليوم ... !!! ...
- لا شيء لا شيء يا رحيم ...
- لكنَّ وجهك مُصفرّ كورقَةِ خريفٍ خجول ... وكأنّكَ تُعاني من أمرٍ ما ...
- لست أدري ... أشعرُ بضيقِ تنفسْ ... وكأنَّ صخرةً كبيرةً على صدري ...
- إنّها دلائل ليست سارّة يا صديقي ... عليكَ بزيارةِ الطبيب على الفور...
- لا ... لا أعتقدُ بأنّي بحاجةٍ إلى طبيب ... رُبّما لأني مُفلِسٌ هذه الأيام ...
- ههه مُفلسْ !!!! ... مُنذُ ثلاث أيامٍ فقط كان معكَ مبلغ كبيرٌ مِنَ المالْ ... أينَ ذهبتَ به ! ...
صَمَتَ ازداشير؛ كانَ العَرَقُ يتصبّبُ منْ جبينهِ العريض؛ ومن قمّةِ رأسهِ, حاولَ أنْ يُنهي الحديث بسرعة؛ اومأ لصديقهِ ( رحيم ) برأسهِ بإشارةٍ كانا يفهمها كل واحد منهما ؛ تركَ المكتب وغادرَ على الفور ...
- يالكَ من أحمق ... قال رحيم بنفسه بينما قدما صديقه ترتطمانِ بحافة باب المكتب ...
- لابد أن أذهبَ إلى لورا ... لكني لا أملكُ المال ... ماذا أفعل ... هل ستقبَلُني الليلة ... !!! ...
في طريقه إلى الشفة؛ زار بائع الساعات العجوز , ذلك الرجلُ الذي مرّت عليه السنون دون رحمة ومازال يمارس عمله في محله الصغير ...
- أريدُ أنْ أبيعَ هذه الساعة يا سيد ... ( آهٍ لقد نسي اسم العجوز , فنعتهُ بالسيد ) ...
- لكنها ساعة قيمة ... إنّها أثرية ... حرام عليكَ أنْ تُفرّطَ بها ...
- لا يهمْ ... لا يهمْ ...
- إذنْ سأدفعُ لكَ ( ........ ) ثمناً لها ... وإنْ توفر لديك المبلغُ وأردتها فعدْ إليّ, سوف أُرجعها لك يا جارنا ...
- حسناً ... حسناً ... إليّ بالمال ...
لمْ يمرّ كعادته إلى بيتهِ في ذلك المساء؛ أمطار آذارية غزيرة تهطل حينها؛ مرّ بجانبِ شجرة التين دونَ أنْ يُلقي التحيّةَ عليها كالمُعتاد ...
- ما به هذا الرجل ... هل أصابهُ شيء ... تحدثتْ الشجرةُ بِصمتْ ...
احتسى فنجان القهوة بعد أنْ قذفَ بالمالِ إلى صدرِ لورا؛ ابتسمتْ بِخُبثٍ؛ لكنّها لم تُعلّق على مافعله ...
- هيا ... هيا إلى غرفة النوم ...
- أراكَ مُستعجلاً الليلة يا ازداشير ....
- نعم أودُّ أن أعودَ باكراً إلى البيت ... هيا ...
كانت المرآةُ تشهدُ مناوشات مُقتضبة؛ لُهاثُ الرجل يتتالى ككلبٍ صغيرٍ هاربٍ منْ ثعلبٍ برّي أنهكتهُ الأيام , العرقُ يزدادُ انسكاباً في تلك اللحظات؛ آهاتُ لورا لم تكن تكفي لإيقافِ لُهاثِه المُندفع كسيلٍ جامح ...
- كفى ... كفى ... أرجوك ...
- اصمتي يا امرأة ... اصمتي ...
- لكنكَ بالكادِ تتنفس ...
- قلتُ اصمتي ...
حشرجةٌ تَعمُّ أرجاء الشقة؛ آهاتُ لورا أمست صرخات عالية؛ ازداشير يرتمي على كرسيٍّ هرِمْ؛ شجرةُ التوت تُخْبِرُ الساقية بأنَّ أمراً ما يحدثُ في الداخل ...
فجأة يرنُّ هاتفُ رحيم؛ صوتٌ أنثويٌّ مخنوق على الطرفِ الآخر مِنَ الرصيفِ الفضائي , نظرَ إلى الرقم الآتي إليه, أخذ قسطاً من الهواء قبل أن يحمل السماعة ...
- أرجوك ... صديقُكَ مُغمىً عليهِ ... تعالَ إلينا حالاً ... لا أريدُ فضيحةً جديدة ...
عندما وصلَ رحيمُ إلى الشقة؛ كانتْ شجرةُ التوت تؤدي صلاةَ الفجر؛ قطراتُ الندى لمْ تأتِ في هذا الصباح؛ الزوجةُ مازالت ترتدي فستانها الأحمر, لعلّها كانت تنتظرُ عودة ازداشير , الديكُ يُطلِقُ صياحاً مخنوقاً؛ بينما الدجاجاتُ الخمسةُ أصبحتْ أربعةً فقطْ ...
________
وليد.ع.العايش
6/8/2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق